المقدمة هذا هو الجزء الثاني من الكتاب، نقدمه بعد الإقبال الكبير على الجزء الأول الذي وجد طريقه، وأدى دوره في خدمة أولياء الأمور والمربين، والمتعطشين الى منهج مبسط يناسب مستوى النشء، ويسد حاجته، ويسهل فهمه وهضمه وتمثله..
والجزء الثاني من الكتاب خطوة أخرى في درج التهذيب والتأديب، نقدمها لمن هم أكبر سنا وأوسع فهما، وأقدر على إستيعاب التكاليف، وتقدير المهام، والقيام بالواجبات، ممن قدمنا لهم الكتاب الأول.. فإن كان الكتاب الأول قد أعدّ لمستوى تلاميذ المرحلة الابتدائية، فهذا الكتاب يصلح لمستوى طلاب المرحلة الإعدادية الذين يعيشون في سن المراهقة، ويستعدون للانتقال الى سن الفتوة والشباب.
وقد ارتقينا في درجة آداب العبادات، وخاصة آداب صلاة الجماعة، وما يسبقها من آداب الغسل والطهارة، وما يلزمها من آداب المساجد، وما يتبعها من آداب الجمع والأعياد، كما ركزنا على آداب طلب العلم، واغتنام هذه المرحلة في جمعه وتحصيله، وآداب المتعلم والعالم، وأكدنا على تنشئة الفتى على مراقبة الله تعالى ومحبته، وخشيته، بكثرة ذكره ومجالسته، والتأدب بين يديه بدوام الالتجاء اليه بالضراعة والدعاء، والتقرب إليه بتلاوة كتابه، ومحاولة حفظه، وتعظيم قدره، ومعرفة حقه، وتدبر معانيه، وتطبيقه في الواقع والسلوك..
وإنه لمن الضرورة بمكان الاهتمام بزرع هذه البذور في نفس كل فتى وفتاة، وتعهدها بلعناية والسقاية، ومراقبتها، وتشجيعها بكافة الطرق والأساليب التربوية، حتى تؤتي ثمارها اليانعة جيلا قوي الإيمان، متين الأخلاق، كريم الآداب، صالح الأعمال، نافعا لنفسه وأسرته وأمته.. وهو كما قدمنا مسؤولية الآباء، وواجب الأولياء، قبل كل شيء، ثم واجب المربين والمرشدين والمصلحين..
ولا يمكن أن ننعم بمجتمع صالح، يأمن فيه كل فرد على نفسه وأمواله وأولاده، ويسعد فيه أبناؤه بالمحبة والتعاون والإيمان، ما لم نبدأ بغرس تعاليم الله، ومنهجه في النفس والحياة، والقيم التي أنزلها في كتابه، وارتضاها لدينه، في نفوس الأبناء والبنات منذ نعومة أظافرهم وعودهم غض طري، وقلوبهم نقية طاهرة، وأفكارهم متفتحة متيقظة، ونفوسهم قابلة للخير، مجبولة عليه، صالحة للتربية والنماء..
قال تعالى:
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا النساء 58. ولعل هذه المسؤولية العظيمة من أكبر المهام، وأشد الأمانات التي أمر الله تعالى بأدائها الى هذا الجيل المفتقر الى كلمة خير، أو لفتة إصلاح، أو نظرة توجيه وتقويم وإرشاد..
وهذا رسول الله
يندب الآباء الى ذلك فيقول:" لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع" الترمذي.
ويرغب في العناية بالبنات، وإعدادهن الإعداد الصالح بما يليق بوظيفتهن كأمهات لأبناء المستقبل، فيقول:
من كانت له ابنة، فأدبها فأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأوسع عليها من نعم الله التي أسبغ عليه، إلا كانت له منعة وسترا من النار رواه ابن ماجه.
وهذا كتاب الله تعالى يعطينا مثلا رائعا في حرص الوالد على تغذية ولده بغذاء العقيدة والعبادة والعلم، وتحصينه بسلاح الذكر والمراقبة والأخلاق، ولهفته على تأديبه بالحكم النبوية، وتلقينه الوصايا الالهية، وبذله الوقت والجهد لإعداد الولد الصالح، كل ذاك بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالترغيب الجميل، والخطاب الرقيق، والعبارة اللطيفة، والرحمة والحنان المتدفق من قلب الوالد الرفيق..
قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) لقمان.
وبقيت السورة الكريمة تحمل إسم "لقمان" تذكيرا لكل أب يسعى لينشئ من أبنائه ما يكون له عزا وفخرا وشرفا في الحياة الدنيا، وحسنة ودرجة ونجاة وسعادة يوم القيامة.
وعلى الوالد بعد كل هذا الجهد في النصح والبذل والتعليم والإرشاد، التوجه الى الله تعالى بالضراعة والدعاء (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) فهو الهادي والموفق الى صراطه المستقيم.
إنه خير إرث تتركه لأبنائك، إرث تربيتهم على العقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة، والأدب الكريم، قال سيدنا على
(التوفيق خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، والعقل صاحب، والأدب خير ميراث).
وقال عبدالملك بن مروان ( عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم اليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا).
وقال السري ( الأدب ترجمان العقل) وقال أحد الحكماء ( لا ظفر مع بغي، ولا ثناء مع كبر، ولا شرف مع سوء أدب). وقال الشاعر موصيا كل والد:
عوّد بنيك على الآداب في الصغر ****** كما تقرّبهم عيناك في الكبر
فإنما مثل الآداب تجمعها ****** في عنفوان الصّبا كالنقش في الحجر
وقال غيره موصيا كل ولد:
كن إبن من شئت واكتسب أدبا ****** بنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ****** ليس الفتى من يقول كان أبي
والله ندعو أن يجعل في هذا الكتاب لبنة صالحة في بناء الناشئة الروحي والأخلاقي والاجتماعي، وأن ينفع به، ويجعله خالصا لوجهه الكريم..
والله هادي الى سواء السبيل..